أدبينصوص ادبيه

حين يستهلكنا الحزن

وجهٌ شاحب خلفه حكاية

ريتا الأغا 

لقد استُنزفتُ حتى آخر خيطٍ في داخلي، وصرتُ كظلٍ يتجوّل بين الناس بلا روح. لم يبقَ مني سوى ملامح باهتة، وجهٌ شاحب يفضح ما حاولتُ طويلًا أن أخفيه، وعيونٌ فقدت بريقها بعدما أثقلتها الخيبات والانكسارات. أبدو أمام العالم حيًّا، لكن بداخلي موتٌ صغير يتكرر كل يوم.

 

أحيانًا يكون الإنهاك أشد فتكًا من أي مرض؛ لأنه يتسرّب خفيًا، بلا صوت ولا ضجيج. يبدأ في الروح، ثم ينعكس على الملامح، على انحناءة الكتف، على الصمت الطويل الذي يفضح أكثر مما يستر. عندها يصير الوجه مرآة للهزائم، ليس هزيمة واحدة، بل سلسلة متراكمة من الخسائر الصغيرة التي لا يراها أحد، لكنها تنهشك حتى تذوب.

 

لقد استنزفتني الخيبات؛ خيبات الأصدقاء الذين رحلوا في لحظة، خيبات الأحلام التي انهارت قبل أن تكتمل، خيبات الطريق الذي بدا مضيئًا ثم أغلق علينا عتمته. كل مرة نحاول فيها أن ننهض، نكتشف أن الجرح أعمق مما تصوّرنا، وأن الندبة أبدية، لا تزول بالوقت.

 

لكن التعب الحقيقي ليس تعب الجسد؛ فالجسد يعرف كيف يخلد إلى النوم ليستعيد قوته. التعب الأشد هو ذاك الذي يضرب القلب والعقل معًا، فيجعلنا نعيش بلا طعم، ونستيقظ بلا دافع. هو فراغ داخلي ثقيل، لا يُرى بالعين لكنه يلتهم كل رغبة في الحياة.

 

ومع ذلك… وسط كل هذا السواد، يبقى هناك خيط رفيع من نور. قد يكون كلمة عابرة من غريب، أو ابتسامة صادقة وسط الزحام، أو يقين داخلي أننا لم نُخلق لننطفئ قبل أواننا. هذه الخيوط الصغيرة لا تُعيد الروح دفعة واحدة، لكنها تُذكّرنا أن بداخلنا ما زال هناك بقية حياة، وأننا قادرون — مهما استُهلكنا — على النهوض ولو بخطوة واهنة.

 

نحن لسنا مجرد ما يحدث لنا، بل نحن أيضًا ما نصنعه من رماد ما حدث. قد يُستهلك الجسد وتبهت الملامح، لكن الروح تعرف طريقها للنور، حتى لو ضاقت كل الطرق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى